الثلاثاء، 24 فبراير 2015

بولينا عوكل – مملكة الزهور



بولينا عوكل – مملكة الزهور

اهدتني الرسامة بولينا عوكل 21 صورة للوحاتها الجديدة، التي ستعرضها في معرض سيقام في ما بعد اواسط شهر اذار القادم، في احدى اوسع قاعة/صالة تصلح لمثل هكذا معارض. وهي فاتحة امل ونافذة شُرّعت على مصراعيها، امام من يملكون مفاتيح مثل هكذا قاعات. لعلها تصبح عادة يسري في مضمونها احتواء حركة الفنون التشكيلية في شفاعمرو. ففي بلدنا، كما في العديد من البلدات والمدن العربية، ان لم يكن في جميعها، نفتقر لقاعات تحتمل في فضائها اقامة معرض للفنون التشكيلية. اذ ان نشر الاعمال الفنية، من لوحات وتماثيل واعمال أخرى، يحتاج الى رحاب من الفضاء والبعد، مما يتيح للمتلقي تلك المسافة الكافية التي تعطيه مجالاً للنظر الى العمل الفني، بصورة اكثر شمولية ومن اكثر من زاوية وانعكاس. فالفضاء الضوئي حول العمل الفني، للوحة ما، هو البعد المنظور للبعد الكامن في اللوحة، وهو الارتداد البصري لعمقها الثنائي او الثلاثي الابعاد.
       
                

          واحد وعشرون عمل بالالوان الزيتية وبمقاييس مختلفة، حاولت ان اتصور مقاساتها الا انني لم انجح بالفعل. بيد انني تمكنت من الدخول في فضائاتها والوانها المتجانسة المنسابة برقة ينابع المياة الصافية. هي نماذج من روح بولينا ونظرتها الشمولية للحياة. فهذه فلسفة اللون ومحاكاة الريشة على بساط قماش ابيض، يتحول بفعل الحركة المنبعثة بواسطة يدها المتوافقة مع روحها، الى شكل يضم في ثناياه الكثير الكثير من الجمال.

          نصف هذه المجموعة وأكثر، لوحات تتنفس كنه الطبيعة والحياة. تسع لوحات لأغصان زهور في اوج نضوجها، تشعر وانت تنظر اليها، وكأن عطرها يخرج من اللوحة ليملئ المكان. وهي نماذج من جمال ورد هذه الارض ومواسمها. فزهر اللوز الابيض، ببرعمه الوفي، يذكرني بشعر لمظفر النواب يقول فيه:
" تعال لبستان السر أريك الرب على أصغر برعم ورد
يتضوع من قدميه الطيب
قدماه ملوثتان بشوق ركوب الخيل
وتاء التأنيث على خفيه تذوب"

فهذا هو بستان بولينا يتضوع من براعمه الطيب، وينثر عبيره في الاجواء ولا يغيب، كأني به قارورة معتقة من عبقٍ يشدو به العندليب، تكسرت حناياها على أُطر لوحات عاشقة للزنبق والجوري، بأبيضه وأحمره وأرجوانه العجيب. هذه الاعمال الوردية وصلت بها ريشة بولينا الى حد التصوير المتقن، فخلفية الوحات  تخضع بدون مقاومة او اعتراض للزهور الملقاة على بساطها، معبرة عن قبول غصن الورد الممتد في رحابها، كتعبير عن فرح ليس له حدود. حتى في لوحة الزنبق الارجواني، حيث ازرق الكوبلت يمتد في فضائها المعتم نوعًا ما، الا ان ضوء الزنبق يخرج منه وكأنه انعكاس لنور القمر، وضوء ينبعث بقوة الطبيعة دون مجاملة او خجل.

         
          في لوحة الورد الجوري الابيض، خلفية تحمل لون الاصفر السياني، الاقرب الى الصلصالي الذي هو لون طبيعة جدران البيوت الطينية والحجرية القديمة. وهو لون يعكس معظم الالوان عدا الاحمر، ويضيء مساحة اللوحة بنوع من العذوبة والراحة المنبعثة منه. وضعته بساطًا للورد الجوري الابيض، كرسالة تروي قصة البراءة والعذرية الفائقة القداسة. وبُعدٍ ثلاثي لثلاث وردات جوريات وبرعمين، من اكبرها حتى اصغرها عمقًا وبعدًا، بقليل من ظلال لم تسرق من نضارة الورد الجوري، بل اشبعته حيوية وحياة. وهذه الصيغة تندرج على معظم اللوحات التي حملت زهور هذا الجنة المؤلفة من الاغصان فقط، كانها جاءت لتسكن في فضاء البيت، بعنق زجاجة عطر تأبى ان تموت.
   


          في هذه المجموعة من لوحاتها، رسمت بولينا اربع لوحات لطبيعة صامتة، كرز أحمر، ليمون، حبتان ونصف من الاجاص، واصيص يحمل ما يشبة زهرة نوار الشمس وقطف عنب اسود. وهذه اللوحات تشبه الى حد ليس بعيد، ما احتوته لوحات الزهور، من تجانس في اللون والبعد والتركيب، الا انها حملت اكثر من عنصر واحد، فهناك حبات من الكرز على طاولة فوق منديل ابيض، في ضوء مسترسل على شريحة الخشب البني الامغر، في حين يتباهى الكرز بلونه الاحمر القاني المرتبك في تفاعله مع الاحمر العنابي. ففي هذه اللوحات ايضًا تتعمد ريشتها ان تعشق ابعاد الدقة في التصوير، كأنها تريد ان تثبت لنفسها وللمتلقي، انها تستطيع فعل ذلك بمهارة وجدارة.  

اما اللوحات الباقية فتتناول موضوع المرأة وأنوثتها. في صمتها، في انتظارها، في لحظة استرخائها، في سهوة تأملاتها، في امومتها، وفي طفولتها الحالمة! وفي بعض هذه اللوحات ايضًا، تعود الزهور لتملئ فضائها وتفترش مكوناتها لخلق ابعادها ومعطياتها. في بعض هذه اللوحات تكتشف قليلاً من التوتر، حيث ان بعض عناصرها غير متجانسة الابعاد، من ناحية مقاييس اعضاء جسد المرأة. الا انها تحمل السمات الكافية للتعبير عن ذاتها، كنوع من الرسم الانطباعي التعبيري، الذي يحمل رسالة للمتلقي، ويترك له افقًا واسعًا، يستطيع ان يحلق به، ليرى ما يريد من خلال اللوحة ومضمونها.
    
          ان اعمال بولينا عوكل لا تنتمي الى حركة الفنون التشكيلية المعاصرة. فهي تريد ان تعبر عن ذاتها ومكنوناتها دون التأثر بصيرورة الحياة اليومية، المليئة بالتناقض والتبدل والمشاهد الآثمة التي تلوث فضاء الدنيا. ان الحركة الفنية المعاصرة، تتخبط باشكال عنيفة من التناقضات، التي هي انعكاسًا لواقع الانسان وبيئته، هنا وفي كل مكان. ربما اننا لم نستطيع بعد ان نرتب تلك التناقضات المميتة على شكل عمل فني. في حين اني اشاهد العديد من الاعمال الفنية ذات البعد الواحد او البعدين على اكثر تحديد، والتي تحمل في تكوينها قطع مترامية لا يجمع بينها اي شيء، وهي مزيج من اشكال هندسية او بقايا قطع او اشياء لا معنى محدد لها، كأنها تريد ان تصور حياة الناس اليومية، او كأنها انعكاس لحياة متوترة مصعوقة لا تملك لحظة هدوء في ثناياها! موت ودمار ونزوح وفقر واستغلال وبشاعة وقذارات لا حدود لها. من هنا اجد في ما قدمته بولينا من اعمال، كأنه صفوة صفاء لحياة بعيدة عن واقعنا، حياة ترفرف كطائر السنونو حين يمخر عباب الفضاء، في سماء قرية مهجورة يفترش الورد كل شبر من أرضها، بعيدة عن ضوضاء البشر والآت تدميرهم.

          في النهاية، لا يسعني الا ان أُقدر هذه الاعمال لانسجامها مع نفسية وروح صاحبتها. بألوانها ومضامينها وموتيفاتها وهدوئها الباعث الى الامل. على امل ان تتجدد وتنمو فيما هو أتٍ، اعمالاً أخرى تتطور وتزهو برقة وعذوبة الحُلم الروحاني لحياة سعيدة لكل البشر.

 مع تحيات
زاهد عزت حرش

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق