الفنان زاهد عزت حرش
خاص بمؤسسة فلسطين للثقافة
عبد الله أبو راشد*
الفنان التشكيلي الفلسطيني "زاهد عزت حرش" المولود
يوم السادس من شباط عام 1956 بمدينة شفا عمرو بفلسطين المغتصبة، هو من أصول
سورية ترجع لوالديه اللذين وجدا في فلسطين منذ أيار 1946 مكاناً مناسباً
لسكنهم لظروف معيشية ألمت بهم، موصولة بعمل والده وقتذاك في صفوف الجيش
البريطاني أثناء الحرب العالمية الثانية، ورغبة منه في قبض تعويضات
مستحقاته المالية عن تلك الخدمة، فكانت مدينة شفا عمرو محطة الإقامة
والولادة.
عاجله مرض شلل الأطفال في سنوات طفولته المبكرة، قبل أن يبلغ
أشهر حياته الأولى ورافقه طيلة حياته، كمقعد على كرسي متحرك، كحالة مرضية
خارجة عن طاقته وقدراته الشخصية، وقدر لازم حياته ويومياته الحافلة بمدارات
الأمل، وتقبلها بكل ما فيها من مرارة وألم ومعاناة، واجهها بهمة وعزيمة
وإرادة صلبة ومعاندة، وساهم والديه في حسن رعايته وإحاطته بكل ما يلزمه من
مقومات الوجود لتجاوز مرضه ومصابه الأليم، وأمدته حالته الصحية الطارئة بكل
تجليات الصمود والتحدي والقوة في مواجهة أقداره. وضمنها في أشعاره في أكثر
من موضع، ولعل مطلع قصيدته (رجل عنيد) خير دليل على ذلك التحدي" بقوله:"
أنا رجل نصفه بشرٌ ونصفهُ من حديد".
تعلم في مدارس بلدته شفا عمرو حتى المرحلة الثانوية، حيث وجدت
موهبة الرسم موئلها في تفاصيل جسده ومناطق وعيه تفكيره، واستوطنت منه
الحواس والمدارك، ونقلته من حالة اليأس والعجز إلى حالة المواجهة وتقبل
الواقع، وزادته الإعاقة الجسدية منعة وإرادة قوية وهمة جبارة في تخطي مصابه
المرضي الذي لازمه طيلة حياته، ودفعه ذلك التصميم والتحدي إلى الهرولة
المتفائلة في خوض يوميات الحياة والمثابرة والاندماج مع محيطه المجتمعي.
والتنقل ما بين حدائق الفن التشكيلي والأدب والسياسة والتفاعل الاجتماعي.
وكانت أول إطلالة فنية تشكيلية له من خلال مُشاركته في معرض جماعي بالمدرسة
الثانوية بمدينة شفا عمرو، تابع دراسته الذاتية للفن وتعلم على نفسه،
وكذلك تمكنه من متابعة دراسته ما بعد الثانوي بكلية التقنيات في مدينة حيفا
لفلسطين، مُتخرجاً من قسم الرسم الهندسي وحاصلاً على شهادة دبلوم عام
1975، أهلته لفتح مكتب هندسي كخطوة البداية في رصف توجهاته المهنية
والحياتية.
تابع مسيرة والده السياسية في انتسابه إلى الحزب الشيوعي، ومن ثم
الجبهة الديمقراطية للعدالة والمساواة، مشاركاً في أطرها الحزبية كمناضل
شرس ومقاوم مميز، شارك في العديد من التظاهرات الجماهيرية الشعبية والفنية
داخل فلسطين المغتصبة عام 1948، ومُساهماً فاعلاً في تنظيم مجموعة من
الفعاليات الثقافية والمعارض الفنية التشكيلية الفردية والجماعية لفنانين
فلسطينيين من كافة المناطق والمدن الفلسطينية داخل فلسطين وخارجها. وتسلم
مقاليد ومهام إدارية في العديد من الاتحادات المهنية والنقابية، لاسيما
فيما يخص الإعاقة الجسدية.
كان الفنان " زاهد" مجموعة قدرات مجتمعة في شخص رجل واحد، رساماً
ونحاتاً وخزّافاً ومصوراً وكاتب نصوص نقدية وشعرية وسياسي. وله في هذه
المبتكرات والميادين جولات وصولات، وثمة متسع لمحاورة بصرية وجمالية،
ومقولات ورؤى فكرية وفلسفية، تعكس طبيعة صانعها ومحدداته الأيديولوجية،
وتُبدي مدى قدرته على تقديم كل ما هو جديد ولافت ومفيد. ومقالاته النقدية
في ميادين الفن التشكيلي أكثر من أن تُحصى، وله عدة مؤلفات وكتب مطبوعة في
الأدب والنقد الفني التشكيلي. وتذكاراته الفنية من رسم ونحت وتصوير موضوعة
في أكثر من معلم ثقافي وإداري فلسطيني داخل الأراضي المغتصبة عام 1948.
أقلام الرسم والتلوين كانت سلواه وأدواته الباحثة عن مناطق نجواه
الذاتي، عبر ذاكرته البصرية المتأملة بما يحيطه من شخوص، وبما تمتلك
بصيرته وذائقته السردية من وسائط محاكاة وتعبير ومفردات سرد لغوي، وحبكة
تقنية لسرد معالم نصوصه التشكيلية ذات النكهات التصويرية التسجيلية، تنتمي
في كثير منها إلى الاتجاهات الواقعية المشابهة لتقنيات الرسوم الصحفية
والتوضيحية في طريقة بناء لحمتها التصويرية، وتُقارب عوالم الحفر التخطيطي
المباشر على سطوح الخامات المستعملة. تُشكل في مجموعها باقة جمالية مُشبعة
بخصوصية التأليف والتجريب، والبحث عن خفايا ذاته ورغباته المتوارية في متن
تلك النصوص، والمعبر عنها في مؤتلفات شكلية لتقشف لوني أحادي الجانب، قوامه
الأسود على بياض الورق، والباحثة عن نقاط مضيئة في هذا العالم المظلم،
يستعير رموزها وشخوصها من ذاته الشخصية المتفاعلة، والمُحبة لجوقة ممتدة
وشاملة لشعراء وفنانين ومغنين أحبهم وضمنهم كضيوف كرام في ألبوم تصوراته
الخطيّة، يختزلها بالخطوط السوداء المتداعية على أناقة الورق الأبيض، وجميع
شخوصه مُستعارين من حدائق بلاد الشام والأراضي الفلسطينية المستباحة من
الغزو والاغتصاب الصهيوني.
عائلته وأسرته أخذت من زخرفه الخطي الشيء الكثير، أدرجها في مواقف بصرية متعددة المرايا الشكلية، العاكسة لتجليات الحب والتمسك الأسري، وتُزيل بعضاً من قلقه الدائم والمتجلي بمقولات شعبية:" أنه مقطوع من شجرة"، علماً بأن - الحجر والشجر والطبيعة الفلسطينية والناس المحبين من أبناء شعبنا الفلسطيني في شفا عمرو وسواها هم أهله وأحبته وذويه- وتجد خطوطه السوداء والمشغولة بمهارة وصف وتأليف تقني من عناق الأبيض والأسود، فسحة مناسبة للخروج من تلك الحالة، وربط صلات الوصل المتوالدة من رحم الفنون الجميلة، والمكرسة في رسمه وتصويره لشخوص والديه والسيدة "فيروز" وعلامات فنية فلسطينية وعربية أمثال إسماعيل شموط، والشاعر محمود درويش وسواهم. تشكل جميعها المعادل الموضوعي تجاوز القلق وحالة الفقدان، وتلخص حدود تلك العلاقة الوجدانية الحميمة التي تربط الرسام مع ذاته الموصولة بذات المبتكرين الفلسطينيين والعرب كأسرة واحدة، فيها ما فيها من التقشف اللوني والمعاني والإحالات الرمزية والمعنوية الغنية باللمسات الخطيّة والمشاعر الإنسانية المحبة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق