السبت، 7 مارس 2015

رسالة الى الكاتب حنا مينا ارسلت بتاريخ 5.06.1998



شفاعمرو 5/6/1998

رسالة الى الكاتب حنا مينا ارسلت بتاريخ 5.06.1998

استاذنا الكبير حنا مينا دمت سالماً


اسمح لي بالدخول من خلال ناظريك, الى بعض من مساحة قلبك, وذهنك, دون ان احمل تأشيرة دخول مصدقة, من مفكرتك العابقة برياح العمل الدائم والعطاء المستمر.. اسمح لي, رغم ان ليس لدي جواز سفر يمكنني من دخول وطني الام سوريا.. انا الذي عانى من هذا الاغتصاب الدولي, الذي حملته الامبريالية العالمية, واحتفلت, ووزعت الحلوى بميلاده, الرجعية العربية, اعلاناً عن قيام وطن قومي لليهود, يمزق ارجاء فلسطين, ويشتت ابناءها, ويهز اركان مجتمع كان في بداية تكوين واقعه الوطني ما بين الحرب العالمية الاولى والثانية.. ومن المفارقة ان يستقر والداي فيه, ويتشرد القسم الكبير من ابناءه, تحت وطئت العنف السادي والاجرام الفاشي للعصابات اليهودية.. من المفارقة, ان الذين جاءوا الى فلسطين لبضع ايام لتلقي تعويضات, عن الخدمة في الجيش الانكليزي ايام الحرب العالمية الثانية, اضطروا الى البقاء والمعاناة بتحمل نظام الحكم العسكري, والجوع والمرض وظروف الحياة القاسية التي لا ترحم. ونظرات الناس قليلي الاستيعاب, ان أي جزء من الوطن العربي هو حق لوجود الانسان العربي فيه, بحكم الرابط القومي والامتداد التاريخي لوجود الامة.. فأصابتنا الغربة في الصميم.. اهلنا واقاربنا على بعد ساعة سفر منا ومجرد رسالة, في ذلك الزمان, كانت تلف العالم حتى تصل اليهم.. اما انا فقد اصبت بشلل الاطفال وانا ابن خمسة اشهر.. فصار غربة وكحل اسمر.. الحقيقة, اننا عانينا من صراع ذو حدين, فلا نحن بخير من سياسية سلطة الاحتلال اسوة بالاخوة الفلسطيني, الذين اعتز بانتمائي اليهم , ولا نحن بقادرين على العودة , او لقاء الوطن القريب البعيد.. قام الوالدان بتربيتنا على حب الوطن الام.. فنحن ننحدر من مدينة حماة, بعروقنا تسري قطرات مياه نهرها العاصي. ولنا ذكريات عن تلك الربوع التي لم نعايشها, كتلك, الواردة في (بقايا صور), هي في موقع الحلم من الذاكرة. وما ان استيقظت, من خلال حلم قديم , فاذا بي اشاطر الآم شاعرنا الثائر مظفر النواب حين قال:

قد كبر الشوق عشرين عاماً
وصار اشتياق
وما من دموع اداوي
بها حضرات الهموم الجليلة
الا قميصي وقلبي
وكلمة حب نسيها الرفاق
تفتح حزن كثير غداة افترقنا (ارتحلنا)
ولست على احد نادماً غير قلبي
فقد عاش حباً معاق.

          بعد المرحلة الثانوية, التي لم يتسنى لي انهائها , للظروف المادية الصعبة التي كنا نعيشها بسبب مرض الوالد. بعدها بدأت مسيرة الصراع مع المؤسسات الحكومية , للحصول على مخصصات للمعاقين, فإكتشفت سياسة العنصرية والتميز القومي, الذي نعاني منه نحن البقية الباقية في وطنها.. لكنني وبعناد وصبر استمريت في مواجهة هذا الواقع, حتى حصلت على منحة للتعليم في مجال الرسم الهندسي لمدة عام.. وكان ذلك ايام يوم الارض الخالد.. حين انطلقت شرارة اعلان الاضراب العام لمواجهة السلطة الغاشمة, من بلدة شفاعمرو, من دار بلديتها, حيث اقيم اجتماع ضم رؤساء المجالس والبلديات العربية, الذين صوتوا باكثريتهم ضد الاضراب. ولم يؤيد الاضراب, ويقف في وجه العملاء سوى الشيوعيون, الذين مثلوا بعض المجالس والبلديات, وعلى رأسهم طيب الذكر القائد الشيوعي المرحوم توفيق زياد.. الذي تحد قرار الاكثرية ضد الاضراب, التي وقف على رأسها رئيس بلدية شفاعمرو, ابراهيم حسين, والذي زار في العام الماضي سوريا, على رأس وفد الجماهير العربية.. الوفد الذي تم تشكيله بصورة عشوائية, لان احزابنا اليسارية الوطنية العلمانية (الشيوعي والتجمع الوطني)*. لم تحسن ترتيب اوراقها, ولم تحافظ على قنوات اتصال تليق بالمهام الملقاة على كاهلها, بوصفها المسؤولة عن مستقبل هذا الشعب وتاريخه.

ربما كانت هذه العفوية في التعامل, والعلاقة السياسية ما بين الفعاليات السياسية والشعبية الوطنية, ناتج عن غياب الرعيل الاول من القيادات الوطنية الفذة, من القادة الشيوعيين, امثال الكاتب الكبير اميل حبيبي, وحنا نقاره , واميل توما, ونوفيق زياد. مما اتاح تشكيل هكذا وفد, اشترك فيه اناس لهم صلة بأجهزة مشبوهة, وأخرى منخرطة في العمل السياسي الصهيوني.. في هذه الايام المضيئة من تاريخ بلدي, والتي وقف شبابها بحزم الى جانب قرار القائد توفيق زياد, في اعلان الاضراب الاول ليوم الارض الخالد.. بدأت اتعرف على السياسة بشموليتها, اكثر فأكثر, فقرأت الماركسية, بداية من البيان الشيوعي وحتى بناء حزب من نوع جديد.. شاركت في نضالات حزبنا ضد التميز العنصري, وسياسة الحرب والهيمنة الصهيونية والامبريالية العالمية.. في مهرجاناتنا الشعبية المختلفة, ومؤتمرات حزبنا, كانت تقام معارض للكتب والنصوص الثورية والادبية رفيعة الذوق والمستوى.. هناك من على تلك الرفوف المتواضعة, والقائمة على جوانب ساحاتنا العامة, التقيت باول كتبك.. ولا زلت اذكر ذلك الوجه المرسوم بخطوط مستقيمة, وفي الفم سيجارة, كأنها علامة تميز صاحب الكتاب عن غيره.. حملت تلك الكُتب اسم (حنا مينا).. وبدء رفاقنا يتحدثون عنك كواحد منهم.. كواحد منا.. هنا بين رياح العمل الثوري, ورياح الفصول المتقلبة, كانت رياح كتاباتك تأخذ مكانها في القلب والضمير, لتنسج وحدة من قوة الارادة, وقوة العقيدة, في ان شعباً يريد الحياة لا بد وان ينتصر.. لست ادري, هل في العالم العربي نقد ادبي  بالمعنى الحقيقي للكلمة.. من قال ان الكاتب, هو شيء من نوع آخر؟ انت هو كاتبنا, والناطق الرسمي باسم الطبقة العاملة وجموع الشغيلة في كل مكان.. الم يلحظوا!!  ان كتاباتك تداخل ما بين الصراع الانساني والطبقي, بحيث يتسرب من  خلالها شرح مبسط لإيمانك العقائدي بانتصار الطبقة العاملة, وزوال استغلال الانسان لاخيه الانسان.. الم تكن ذلك المقاتل, الذي يحارب على جبهة تتناقض مع ذاتها.. أي ان مطلبك التحرري لا تسيطر عليه عادات وتقاليد اجتماعية بالية.. ولا زلت اقرأ بين سطور كتاباتك, ذلك النوع من الرؤية الشمولية الواضحة للنضال الحقيقي, حيث جاء في الصفحة 256 من كتابك الاول لثلاثية - حدث في بيتاخو- ما يلي: (ان افضل الرجال يأتون الى صفوف النساء, ليكون النضال مشتركاً, وبه يتحرر الرجل والمرأة معاً. وان تكون مثقفاً, واعياً, مدركاً, متحضراً, لا بد ان تعرف, بدهياً, ان موقف الرجل من المرأة معيار حضاري..).

          لقد تمتعت كثيراً بقرأة هذا الكتاب, وقاسيت ايضاً, من الواقع المرير الذي تعيشه قوى اليسار الذي لا زالت تتحكم به اساليب وعادات موروثة, من علاقات ومواقف متناقضة ادت في ما مضى, وستؤدي على ما يظهر في المنظور المحدود, الى تلك الانقسامات والتشرذم, والى مواجهات تخدم القوى المعادية. لكنه يبقى الايمان العميق, بصدق العقيدة والتطلاع الى غدٍ مشرق للبشرية جمعاء.. لان تاريخ البشرية, كان وسييبقى تاريخ انتصار الخير على الشر, وانتصار النور على الظلا م, برغم فداحة الموبقات التي يرتكبها ظُلام البشر ضد البشرية والانسانية.. وما دامت هذه البشرية تحوي بين ابناءها, حنا مينا, صاحب العطاء الذي لا يريد ان ييأس.. فان الدنيا بخير!! هذه الكتابة الرائعة, الهادئة كنسيم الصباح, والعاتية كرياح الثورة.. التي تقبض على طرفي نقيض من نور ونار, تحفر في اعماق ذاكرتي: (وفي الليل, عندما ينام الكون في سرير الزمن) ص 136. لتدخل بها الى عالم سرمدي, ينسجم مع اصغر جزء في بناء الكون بوحدته الديالكتيكية, و ليشكل في الطرف الآخر, الايمان المطلق بمواجة المطاردة من أي نوع كانت: (في بلدنا غير الاشتراكي نطارد, وفي البلدان الاشتراكية نُطارد, فأين نذهب) ص 272. المواجه هي الصدق.. والرفض, هو لانك تعي بصدق مطلق, ان صدق موقفك جاء بسبب رفضك للمهادنة. اذكر ما قاله لينين حول العبودية.. (ليس عاراً ان يولد الانسان عبداً.. لكن العار يكمن في العبد الذي يسعى الى تجميل عبوديته). ان كتاباتك تصهرنا.. تعذبنا ونحبها.. انها شكل صادق من المعاناة.. المعاناة الشخصية التي هي جزء من معاناتنا العربية, عند العودة (في السابع عشر من ايلول, عام 1967 كان في مطار دمشق..)  يتبع (كان القمر مشعاً. كان يغمر الكون بضياء ابيض. حدق فيه . ظل يحدق فيه, خيل اليه ان في القمر نقطة يعرفها. اتسعت النقطة. ارتسمت. ظهر ما يشبه الوجه, ظهرت على الوجه ابتسامة.. ابتسم بدوره قائلاً: "جنية القمر سافرت معي..") الربيع والخريف ص 327-328.

         
في هذا الزمان, يدخل الى دمشق اصحاب المقامات, من فلسطيني الداخل.. وايضاً حملة شهادات الدكتوراة في الفلسفة.. اما المناضلون الحقيقيون, والذين افنوا حياتهم في الدفاع عن شرف الامة, وعن اشرف ما فيها, ابناء طبقتها العاملة, اما انا القابع على الكرسي المتحرك هنا.. ما زلت, و ما زلنا,  ننتظر الاعوام (الى ان تأتي الساعات العظيمة التي تحمل في احشائها ملايين الضربات لتعلن عن ميلاد فجر جديد) لينين.

          لست ادري كيف سأنهي الكلام.. فقط اريد ان أُذكرك بنفسي, فأنا الذي اتصل بك يوم الجمعة, الثالث من نيسان, هذا العام. لأقول لك.. انني من اصل سوري, من مدينة حماه, واسكن في الجليل.. ان احداً لا يستطيع ان يصف فرحتي بالحديث اليك,  وسماع صوتك الابي. فما يزال هذا الصوت يشجعني ويمدني بالعزم على مواجة واقعي الذي ارفضه, ولا استطيع التعايش معه, لكنني اروضه حتى يقبلني كما انا.. فأنقل معاناتي بواسطة الريشة والوان الزيت او بتقنيات اخرى,على الورق او على ما تبقى من قماش بحوزتي.. حتى اتمكن من انجاز عمل تشكيلي يحمل بعض بصماتي, فيعود اليّ قليل من الامل بالحياة.. لأبقى بين اولادي وزوجتى, حتى ولو كنت انسان مقعد.. اعود واتذكر ذلك اللقاء معكَ, الذي بثه التلفزيون الاردني بأواسط الثمانينات, وبعضه تم تصويره في مكتبك, وكانت من الخلف تظهر صورة الكاتب "ارنيست همنغواي", قلت فيه: ( انا ارفض ان اموت ما دمت استطيع ان الحياة.. ) اتمنى ان يمتد بكم العمر ابد الدهر.. فان كلامك هذا اصبح ملاذي الوحيد للبقاء ولمواجهة مصاعب الحياة.

          خيراً اسمح لي ان ارسل من خلالك, باقة ود وتحية صمود, الى الشاعر السوري, المناضل فرج ببرقدار, ابن مدينة حمص, احد مؤسسي (رابطة العمل الشيوعي), الملقى في احدى السجون, ومع اخلص التمنيات بالافراج عنه.  

          استاذنا الكبير
          هذه الرسالة ستصلك بواسطة احد اقاربي المغتربين, واتمنى ان اتلقى من حضرتكم صورة شخصية مع بعض كلمات, اذا اردت انت ذلك, ومن اجل ذلك يكفي ان تضعها داخل ظرف تكتب عليه (الى زاهد عزت حرش) وتضع الظرف داخل ظرف آخر تكتب عليه العنوان التي:


تمنياتي لكم, ولجميع افراد اسرتكم, بالحياة السعيدة ودوام الصحة والعافية, وان تبقى منارة للنور والابداع الانساني.. دمت لنا ودام عزمك وعطائك ابد الدهر.

بإخلاص
زاهد عزت حرش
شفاعمرو/  الجليل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق